غزّة... الأرض الّتي نسيها الزمن | أرشيف

نساء في قطاع غزّة خلال حرب عام 1967 (النكسة) | Getty images

 

المصدر: «السفير».

الكاتبة: ماري كيرتس.

ترجمة: إبراهيم مرعي.

زمن النشر: 26 كانون الثاني (يناير) 1986.

 


 

أفردت مجلّة «كريستيان ساينس مونيتور» تحقيقًا عن قطاع غزّة المحتلّ على ثلاث حلقات (4، 11، 18 كانون الثاني)، تناولت فيه مختلف الأزمات السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والاستيطانيّة الّتي يواجهها القطاع.

 

***

 

بالنسبة للمراقب غير المتتبّع، يبدو أنّ 18 عامًا من الاحتلال الإسرائيليّ تركت شريط الأرض المزدحم هذا، وكأنّه لم يُمَسّ. يقول دبلوماسيّ غربيّ إنّ "غزّة تشبه فيلمًا سينمائيًّا عن كوكب القرود... إنّها في الواقع الأرض الّتي نسيها الزمن"، هذا التقييم قاسٍ، ولكنّه دقيق إلى حدّ كبير.

بالمقارنة مع المراكز الحضريّة في القدس وتل أبيب، تبدو غزّة نسبيًا وكأنّها منطقة معزولة يصعب التأثير فيها؛ فبمجرّد أن يتجاوز المرء نقطة التفتيش الّتي يقيمها الجيش الإسرائيليّ بين إسرائيل ما قبل العام 1967 وقطاع غزّة، يجد منطقة تنتشر فيها خيم وأكواخ البدو، والقرى العربيّة ومخيّمات اللّاجئين. وتختلط على الطرقات العربات الّتي تجرّها الحمير مع سيّارات الأجرة والشاحنات المحمّلة بالحمضيّات.

تبلغ مساحة قطاع غزّة حوالي 180 ميلًا مربّعًا، من الكثبان الرمليّة، وبساتين الحمضيّات، الّتي تنتشر على الساحل من عسقلان إلى الحدود المصريّة. ويقطن في هذا الشريط الساحليّ الّذي لا يزيد عرضه عن خمسة أميال 500 ألف فلسطينيّ، نصفهم تقريبًا من اللّاجئين (من الأراضي المحتلّة عام 1948)، و3% منهم من البدو الرحّل.

لطالما كان قطاع غزّة عنصرًا منسيًّا، إلى حدّ كبير، في أيّة مباحثات تتعلّق بتسوية محتملة للقضيّة الفلسطينيّة؛ فعندما أُعْلِنَ عن قيام دولة إسرائيل عام 1948، سيطر الأردنّ على الضفّة الغربيّة وضمّها في وقت لاحق، بينما وضعت مصر قطاع غزّة الّذي اجتاحه اللّاجئون الفلسطينيّون الّذين أُجْبِروا على ترك منازلهم في إسرائيل، تحت إدارتها. أمّا اليوم، فإنّ العالم يركّز انتباهه على الضفّة الغربيّة، المنطقة الأكثر عرضة للتنافس، في ما يبدو أنّ غزّة ستكون أمرًا متأخّرًا بالنسبة لأيّ ترتيب.

ويقول دبلوماسيّ غربيّ متخصّص في شؤون المنطقة إنّ "السبب في ذلك هو أنّه إذا حسبت قطاع غزّة، فسوف تفقد كلّ شيء". وأضاف: "إذا كانت إسرائيل عازمة على ضمّ الأراضي المحتلّة، فكيف يمكنها امتصاص الفلسطينيّين في غزّة؟ أستطيع أن أفهم أنّ العديد من الإسرائيليّين يقبلون الفلسطينيّين الليبراليّين الّذين ينتمون إلى الطبقة المتوسّطة في الضفّة الغربيّة، ولكن في غزّة، معظم السكّان من البدو والمزارعين، لذلك فهناك صعوبة في استيعابهم". ويقول محلّلون إسرائيليّون أنّه إذا قامت إسرائيل بضمّ الأراضي المحتلّة رسميًّا، أي الضفّة وقطاع غزّة، فسوف يكون أمامها أن تختار بين منح حقّ الاقتراع لـ 1.5 مليون عربيّ يعيشون هناك الآن، وبين عزلهم بشكل دائم كمواطنين لا يحقّ لهم التصويت، في بلد سوف يزيد فيه تعدادهم على اليهود خلال فترة بسيطة". ويتساءل دبلوماسيّ غربيّ آخر: "إلى مَنْ تسلّم أمر قطاع غزّة؟ مَنْ الّذي سيقوم بذلك؟ إذا منحته حكمًا ذاتيًّا، فسوف يصبح كيانًا فلسطينيًّا يعوم بحرّيّة".

في الضفّة الغربيّة، تجد الوجود الإسرائيليّ بيّنًا في كلّ مكان؛ فقد أقام حوالي 45 ألف مستوطن – استوطنوا في مختلف أنحاء الضفّة، مساكن في الغالب على التلال المشرفة على القرى العربيّة، وتراهم في عطل نهاية الأسبوع وهم يتسوّقون في المدن العربيّة الكبيرة، مع إسرائيليّين قَدِموا من خارج الضفّة. كما أنّ الجيش الإسرائيليّ يحتفظ بوجود كبير في الأراضي المحتلّة، هذا إضافة إلى الدوريّات الراجلة ونقاط التفتيش في مختلف الأنحاء.

أمّا في غزّة، فيتراوح عدد المستوطنين بين 10 آلاف و12 ألف، يتجمّعون في 3 مستوطنات. وأكثر الدلائل وضوحًا على الاستيطان، هو الأشرطة الشائكة الّتي تحيط بالمناطق الّتي صادرتها الحكومة الإسرائيليّة من العرب، والّتي تصل إلى 15 في المائة من إجمالي مساحة القطاع.

إنّ شريط مشاكل غزّة طويل، في حين أنّ لائحة الحلول المحتملة قصيرة؛ فغزّة من أكثر المناطق كثافة على وجه الأرض، وحوالي نصف سكّانها يحتشدون في 8 مخيّمات للّاجئين تديرها «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين» (الأونروا). وتتميّز هذه المخيّمات بطرقات غير معبّدة ومجارير مكشوفة ومنازل متداعية.

حوالي ثلث عمّال غزّة يذهبون إلى إسرائيل يوميًّا للعمل في الحقول والمصانع، كما أنّ الجامعة الوحيدة في غزّة هي فرع من «جامعة الأزهر الإسلاميّة». وتفتقر غزّة إلى بنية تحتيّة اقتصاديّة أو قطاع سياحة أو حتّى سوق لتصريف المنتجات الزراعيّة الغزّيّة. يقول الطبيب حاتم أبو غزالة، الّذي يدير مدرسة لتأهيل المعاقين في القطاع: "تحت الاحتلال، كلّ شيء جيّد تقدّمه إسرائيل يتوقّف (في الجانب الإسرائيليّ) من الخطّ الأخضر"، ويضيف: "إنّنا ندفع الضرائب، ولكن ليس لدينا أيّة تسهيلات أو فوائد، كالّتي يحصل عليها الإسرائيليّون". ويقول رئيس البلديّة السابق رشاد الشوا: "لقد سيطر الإسرائيليّون على هذه الأرض وهم لا يريدون التخلّي عنها".

أمّا ابنة أخيه عليا الشوا، فتعكس نوعًا من البراغماتيّة القدريّة، الّتي يبدو أنّها مهيمنة على القطاع، حيث تقول: "أمس ابتعت مجموعة من أشرطة التسجيل لتعلّم اللغة العبريّة... أعتقد أنّ الاحتلال لن ينتهي قريبًا، وهكذا، فبالإمكان تعلّم اللغة".

 

الظروف الاجتماعيّة

بعد ظهر ذات يوم، وفي قطاع غزّة حيث توجد ثمانية مخيّمات للّاجئين الفلسطينيّين، كان حاتم أبو غزالة يتفقّد مع أحد زوّاره واحدًا من المباني الّتي شيّدها. وفي أثناء الجولة، أشار الطبيب أبو غزالة إلى أنّ هذا المبنى المؤلّف من طبقتين، سيكون أوّل مدرسة للمعاقين عقليًّا في القطاع، بُنِيَتْ بمساعدة من ألمانيا الغربيّة وبهبات أخرى حصلنا عليها، وسيكون جهازها التعليميّ من أبناء القطاع.

وأشار إلى ساحة في المبنى، وقال بحماسة، هنا سيكون الملعب الرياضيّ للأطفال، وفوق الملعب ستكون غرف تبديل الملابس، وهنا مكاتب الإدارة. أضاف: "بعض الناس قالوا إنّ المكان فسيح جدًّا، لكنّني أقول لماذا لا يكون للمعاقين في قطاع غزّة المكان المناسب واللائق؟".

وأبو غزالة، وهو طبيب جرّاح، واحد من حفنة من الفلسطينيّين من أبناء قطاع غزّة الّذين يحملون الهموم الإنسانيّة على أكتافهم ويحاولون لدى سلطات الاحتلال الحصول على المزيد من الخدمات الحياتيّة للقطاع.

غزّة، عبارة عن خصلة من الأرض على ساحل المتوسّط، خضعت للاحتلال العسكريّ منذ 18 عامًا، وهناك حاليًّا فرصة لدى أبناء القطاع للعمل داخل إسرائيل، كما أنّ هناك بعض المستوطنين اليهود في القطاع، لكنّ عددهم يعتبر قليلًا قياسًا لعدد الفلسطينيّين الّذين يعيشون هناك.

كان يدير غزّة قبل إنشاء إسرائيل عام 1948، مجموعة من العائلات الّتي تمتلك الأراضي، لكن، بعد الاحتلال هاجر عدد كبير من الفلسطينيّين من مدنهم وقراهم ولجأوا إلى غزّة، حيث أقاموا فيها، وأصبح عددهم أكبر من عدد السكّان الأصليّين.

37 عامًا وغزّة تخضع للإدارات الأجنبيّة؛ أوّلًا الإدارة المصريّة، ثمّ الإدارة الإسرائيليّة الّتي أجبرت خيرة أبناء القطاع على المغادرة إلى أوروبّا والخليج والولايات المتّحدة. إلى درجة أنّ هناك واحدًا أو أكثر من كلّ عائلة في الخارج للدراسة أو العمل، وبعض المقيمين في القطاع الآن إمّا من متوسّطي العمر أو من الكبار في السنّ الّذين ما زالوا يتذكّرون الأيّام الخوالي، وإمّا من الشباب الّذين لا يعرفون أكثر من الاحتلال الإسرائيليّ.

لكن هناك مجموعة من شباب غزّة الّذين عادوا إليها بعد غربة، وقرّروا المضيّ قدمًا في التنظيم إلى أبعد مدى. يقول أبو غزالة: "يوم كان المصريّون هنا، خضنا كفاحًا ضدّهم، ولكنّه يختلف تمامًا عن الكفاح الّذي نخوضه الآن"، ويضيف: "بالتأكيد كانت هناك أشياء ليست على ما يرام أيّام المصريّين، لكن كانت هناك أشياء مماثلة في القاهرة. نقول اليوم يجب أن نحصل على التسهيلات نفسها الّتي يحصل عليها الإسرائيليّون". وتقول إحدى الفلسطينيّيات العاملات في مخيّم للّاجئين تديره «وكالة الغوث»: "إنّ بعض الناس يقولون لك إنّهم لا يستطيعون القيام بهذا العمل أو ذاك بسبب الاحتلال الإسرائيليّ، لقد تحوّل الاحتلال إلى ذريعة لعدم القيام بأيّ عمل". وتضيف: "علينا أن نعلّم شعبنا، يجب أن ننتشله من ذهنيّة الفقر ونجعله يدخل في ذهنيّة الشعب الّذي يستطيع حلّ مشاكله..."، وأردفت تقول: "هناك شباب يجب أن يفعلوا شيئًا مختلفًا عمّا فعله آباؤهم من قبل".

في الحقيقة، لا يوجد في القطاع منظّمة سياسيّة أو مؤسّسات تقوم بما يقوم به أبو غزالة وغيره. ذلك أنّهم لا يواجهون الاحتلال الإسرائيليّ فحسب، بل حشدًا من العقبات. وكما في الضفّة الغربيّة الّتي تخضع للاحتلال الإسرائيليّ، فإنّ المجتمع الفلسطينيّي في غزّة أصيب بحالة من التفتّت السياسيّ والاجتماعيّ؛ فهناك أبناء غزّة اللاجئين، وأصحاب الأراضي الأغنياء، والبدو الفقراء، وأنصار ياسر عرفات والفصائل الفلسطينيّة المعارضة الأخرى، وهناك أيضًا مَنْ يعتقد بأنّ أيّ تسليم للإسرائيليّين، يعني التعاون معهم. وهناك مَنْ يعتقد أنّه من خلال العمل مع الإسرائيليّين يمكن لغزّة أن تتحسّن شوارعها ومستشفياتها ومدارسها وطريقة حياتها.

يعتبر أبو غزالة نفسه ’براغماتيّ‘، قرّر الاعتماد على القانون قدر الإمكان لبناء مؤسّساته. وأوّل انقلاب قام به أبو غزالة، يوم سجّل مؤسّسته كمنظّمة خيريّة خاصّة، حيث أصبحت أوّل منظّمة فلسطينيّة في الشرق الأوسط تحصل على المساعدات مباشرة من الحكومة الأمريكيّة. بينما كان الأمريكيّون في السابق يقدّمون الأموال لمشاريع إنسانيّة خاصّة بالفلسطينيّين من خلال منظّمات خيريّة أمريكيّة.

أحد الدبلوماسيّين الأمريكيّين يقول عن أبو غزالة بأنّه الوحيد الّذي تمكّن من التكيّف مع التكتيكات الإسرائيليّة، بدلًا من أن ينتظر سلطات الاحتلال للحصول منها على ما أمكن. لقد توجّه مباشرة وبدأ هو بالعمل. وقد موّل الأمريكيّون العديد من مشاريع أبو غزالة، وأكبرها مبنى مؤلّف من خمس طبقات، يأمل من خلاله بأنّ يجذب طلّابًا من القطاع والضفّة للتدرّب على مهن خاصّة.

أبو غزالة كان تلميذًا في مدرسة داخليّة في القدس عام 1948، عندما أعلن الإسرائيليّون قيام دولتهم. ويذكر يومها أنّ والده كان طبيبًا آنذاك، وبعث إليه بسيّارة إسعاف لتنقله سالمًا من المدرسة إلى البيت في قطاع غزّة أثناء حصار القدس. وتلقّى أبو غزالة تدريبه في «جامعة كامبريدج» في بريطانيا، ثمّ عاد بعد ذلك إلى قطاع غزّة، حيث أصبح جرّاحًا ناجحًا، وضع كلّ وقته وجهده في خدمة الأطفال المعاقين.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.